يولد المرء باكيا، وينمو آملا في حياة أفضل، لكن القدر دائما له بالمرصاد، فيحاول دوما الوقوف في وجهه بلا جدوى، إذ يرميه بالمشاكل والمخاطر، وكلما خرج من مأزق دخل آخر، ويظل يقاوم ويجري لعله يجد بين طيات الدنيا وفي منعرجاتها بعض الراحة، وفي بيوت فرصها بعض أثاث الأمل أو النجاح بعد زلزال اليأس، يقول الشافعي:
دع الأيام تفعل ما تشاء * * * وطب نفسا إذا حكم القضاء
تراود الدنيا المرء على نفسه فيقوم بما لا يشعر ويقع فيما لا يتوقع ولا يريد، فيعش في ظلماء الأحزان، ويصل الأمر به لحد الكفر وسب القدر والقضاء ذاما لهما، يتحسرويقول: "يا ليتني ما فعلت كذا وكذا لوصلت لما تمنيت جاهلا بالأسباب"، ولكن هذه الحياة، كلما أردنا تطليقها شدت على الأعناق بقوة، وتصير تمثل دور البريء المتهم، وكلما أردنا التأقلم معها طلبت سعادتنا مهرا، ويجري بسفينته ريح النسيان ليرسو في جزيرة الحاضر، وكلما حاول أن يتقدم يعيقه نسيم الذكرى ومحيط الفشل، فيقف على أطلال ماضيه باكيا أسفا، خائفا من العودة إلى الخلف، فيعيش كل حياته مقدما الحذر لأن لا يعود إلى تلك الأحزان والأوجاع التي نسبتها الحياة في غابة جهل المصير، والتي أصبحت حاجزا يقف أمامه مانعا إياه من الإستمرار يغشيه عن الألم ونشوة النجاح، فيقود مستقبله في رمس التردد والعجز، وكذا الخوف، كما قال الشابي:
ومن يخاف صعود الجبال * * * يعش أبد الدهر بين الحفر
يقال: " الدنيا ابتلاء، صبر فنجاح "، وهذا ما يدركه العاقل الذي يرى دوما إلى الأفق، وما يزيده السقوط إلا قوة وعزما على المواصلة والكفاح، ولا يعرف اليأس والفشل طريقا إلى قابه، فيسير وسط هيجاء حياته كفارس يمتطي فرس المثابرة، يحمل سلام الإيمان بالقدر يضع صوب عينيه كنز النجاح، فلن نستمتع بريح الريحان ما لم يخزنا شوكه، كما يقال: " نجني الرحيق من عصير الشوك" ، فليس العيب أن نسقط إنما العيب أن نظل ساقطين، فعلى الإنسان دوما أن يوقد شمعة التفاؤل حتى وإن سجن في حبس المشاكل، وسدت طرائق الخلاص، ويعلم بأن الله فوق كل شيء يعطي الصبر لمن يشاء ويرزق من يشاء بلا حساب، لقوله تعالى: "إن بعد العسر يسرا...." فقطار الزمن يسير بلا توقف ودقات قلب الإنسان قائلة له امض، ولا تنظر إلى الخلف، فليس كل ما يبنيه المرء على أرض أحلامه يتحقق، فلا تنظر في بئر جاف فيزيد ضمؤك، فلا ترجو نيل النجاح بلا خوض معركة مع الدنيا، فكلما أعرتها اهتمامك جعلتك تلهف، فما أحوجنا لإيمان جازم وثقة بالله والصبر على الباء الأعظم، فما فائدة الوقوف على القبور والأطلال إذا لم تعد لها فائدة لحمايتها من أسقام الواقع ؟ ؟ ؟ وما فائدة الذكرى إذا كانت تجف دموع بحر جار؟ ؟ ؟ وما قيمة التحسربعودة ما فات وانقضى بلا عودة؟ ؟ فالإنسان مقرون بالنسيان. إذا أنت بكيت متحسرا، متذكرا لما فات أتراك تعيده؟.....
فجنازة الأمل تشيع في مقبرة الحياة التي أقبرها القدر، وحمل نعشها الزمن.